فى دول العالم تُكوَّن مجالس الشعب أو البرلمانات حاملة صفة السلطة التشريعية و تمثيل أفراد الشعب من خلال النواب المنتخبين ...إلا أنه فى مصر المتألقة دوما -و بغض النظر عن طريقة تكوين مجلس الشعب و صعود النواب إليه-يتخذ المجلس صوراً و أدواراً أخرى أبرزها أنه يخرج من كونه مجلس للشعب إلى مجلس للشغب.
و يشمل مجلس الشغب السباب بأقذع الشتائم التى تصل إلى ابن التيييت و كذلك الوعيد الذى يضم و حياة فلان مرورا بعلىّ الطلاق وصولا إلى ما هو أكثر انحطاطاً...كما يمتد الشغب إلى الاشتباك بالأيدى و الضرب و التراشق بالأحذية و غير ذلك مما خفى و هو بلا شك أعظم.
يوما بعد يوم تشعر أنك أمام فيلم هابط يزداد هبوطا كل يوم ليصبح منحطاً و بذيئاً إلى درجة تحتاج إلى تنويه مسبق قبل إذاعة كل جلسة باحتمال وجود مشاهد خارجة لا تناسب الصغار و أصحاب الثقافة و التربية رفيعة المستوى.
و مع كل ذلك يبدو أن أحدا لم يعد يتأذى من ذلك الهبوط و الانحطاط لأن تلك الممارسات تحدث فى الشارع و فى الحياة اليومية لدى الكثيرين دون امتعاض من الناس...و الأشد وطأة أنك قد تجد كبار رجال الدولة يصرحون بعدم انزعاجهم من تلك التجاوزات معللين ذلك بوجود ما هو أسوأ فى مجالس أخرى حول العالم و كأنهم يرسون قاعدة الشغب للشعب و هى أن
الأخطاء مبررة دوماً إذا قورنت بالكبائر.
إذا خُير المرء ألا يداهمه الألم أبداً أو أن يولد دون خاصية الشعور بالألم قد يكون خياره هو التخلص من الألم ظناً منه أنه يتخلص من نقمة تهدده و تنغص عليه حياته...و لكنه فى الواقع لا يعلم أنه يتخلص من نعمة كما يتخلص من حياته فى نفس الوقت..!!
ففقدان الشعور بالألم يعد مرضاً من أندر الأمراض فى العالم يصاب به شخص من بين كل 125 مليون و يعرف باسم CIPA
Congenital Insensitivity to Pain with Anhidrosis
و لعل ذكرى له لا يأتى فى إطار بيان مكمن المنحة فى الألم بالنسبة للإنسان و حسب ...إنما أذكره للخروج به من نطاق ألم الفرد إلى ألم المجتمع...!!
ففى حالة الفرد ..المصاب بالمرض يولد دون القدرة على الإحساس بالألم أو الحرارة و البرودة و ما شابه لغياب الخلايا التى ترسل إشارات الإنذار للمخ...إلى هنا قد يظن البعض أنه أمر جيد و لكن الحقيقة المؤسفة أن المصابين يتعرضون لإصابات عديدة كالحروق و الكسور و الجروح الخطيرة و غيرها من الأمور التى تودى بحياتهم و هم أطفال فى أغلب الأحوال.
هكذا حال الفرد فاقد الألم أو دعنا نقول منحة الألم...فما بالك بمجتمع كامل إذا أصيب بهذا المرض الذى يفقده الشعور بأى ألم
لا يؤلمه التأخر و السير فى ذيل الأمم...فلا ينهض للحاق بالمقدمة...فيزداد تقهقرا
و لا يؤلمه طغيان الجهل و الخرافة...فلا يعمل على استئصالها ...فتزداد تضخما فى جسده
و لا يؤلمه ضياع حقه...فلا يهب لمعرفته أو المطالبة به...فيزداد نهشا فى جسده
و لا يؤلمه استشراء الفساد...فلا يتحرك قيد أنملة لعلاجه...فيزداد توغلا فى جسده
و لا يؤلمه أى شئ سلبى...فلا يشعر بالخطر المحيط به...و لا تنبه خلاياه مخه إلى تدهور جسده...فيحتضر دون أن يشعر بقرب نهايته...!!
لذا فإنه عندما تُنكأ الجراح و تشعر بالألم عليك أن تحمد الله أن المرض لم يبتلعك مع الجموع فى المجتمع و أن تدعو أن يستعيده الآخرين و تدوم لك منحة الألم...!!
الفراغ...ذلك الشئ الذى يعانى منه الكثيرون من وقت لأخر و بأشكال مختلفة و هو لا يعنى بالضرورة عدم وجود ما يشغل الوقت...على العكس...قد يكون الانسان غارقا من أعلى رأسه حتى أخمص قدمه فى أعماله اليومية و مع ذلك قد يعانى من إحساس الفراغ النفسى لأن انشغاله لا يعدو ان يكون دوران إجبارى فى ساقية الحياة اليومية مع غياب المقاصد المحددة و الإنجازات الملموسة...و قد يعانى من الفراغ العقلى عندما يحاط بمجتمع يغيّب العقل و يقدس الهراء...و قد يعانى من الفراغ الروحى عندما يفتقد صدق الروحانيات فى عالم المزايدات و الصراعات و الأحكام المسبقة...و قد يعانى غير ذلك من أنواع الفراغ...!!
هكذا حال الفرد فى كثير من الأحوال...و لكن دعنا من الأفراد و للنظر إلى الصورة الأكبر...إلى صورة شعب بأكمله...إذا كان الفرد يعانى من حجم معين من الفراغ فلنضرب حجم ذلك الفراغ فى ملايين الأفراد...أضعاف مضاعفة من الفراغ تتراكم لتكون فقاعة ضخمة بمثابة فراغ قومى...فراغ على مستوى الأمة...فراغ أكبر يتولد من الفراغ الفردى ثم يولدّه بشكل أقسى...فراغ مهول يبتلع كل شئ و يفتك بأى شئ...فراغ يمتص الأرواح و يقتل النفوس...فراغ يسّير الأمة قهرا فى فلك النظام العالمى بلا هدف قومى...بلا وجهة محددة...بلا شئ....فراغ يطمس الماضى و يسمم الحاضر و يظلم المستقبل...فراغ يحيل الشعب إلى جثة هامدة تنتظر دورها لتدفن مع الأمم البائدة...
فراغ قومى لأنه يفرغ البلاد من قومها و إن عاشوا فيها و يفرغ القوم من البلاد فلا تعيش فيهم...!! ا
اليوم ككل يوم...يترجل فى الصباح شاقاً طريقه فى الشوارع و على الأرصفة التى يكتظ كلاهما بالبشر و السيارات و الحيوانات و القمامة على حد السواء...يقطع شروده احساس بشئ ما ينطلق نحوه كقذيفة موجهة...ينحنى قليلاً ليتفادى ذلك الشئ الذى ما يلبث أن يكتشف ماهيته عندما يراه مستقرا على الأرض ...يدرك أنه بصقة طويلة المدى من أحد الأشخاص المحيطين به...يشعر بالاشمئزاز حيال ذلك السلوك المقزز الذى يراه يوميا منذ ولد...!!يمضى فى طريقه ممارسًا هوايته فى تأمل الوجوه الشاحبة و العابسة و الذاهلة والجامدة و التائهة و البائسة و اليائسة.. و أحيانا الضاحكة...يقع بصره على وجه سائق تاكسى يصرخ صراخا هستيريا و يسب و يلعن كل شئ و أى شئ.. ثم يتبع ذلك بصوت هادر يصدر من أعماقه و كأنه البركان يستعد لإطلاق حممه البركانية التى تخرج منه فى صورة بصقة ساحقة ماحقة تستقر على الأسفلت قبل أن يهدأ البركان قليلاً...!!
يشيح وجهه محاولاً التخلص من ذلك المشهد المقزز ...يرى على الجانب الآخر سيارة فارهة ...يُفتح شباكها..يطل منها صاحبها و فى حركة سريعة يطلق قذيفة جديدة من البصاق...!!
تختفى السيارة الفارهة عن ناظريه دون أن يختفى شعوره بالاشمئزاز الذى يزداد شيئل فشيئا حتى أنه يتملكه و يستوقفه بشكل غريب...يتساءل لماذا يبصق كل هؤلاء و علام يبصقون؟
يعلم أنه سلوك سئ و حسب و لكنه يأتيه هاجس يشعره أنهم يبصقون على وجه الوطن...ينتابه شعور بالذنب حيال ذلك التفسير المهين...يفكر ...دعنى من وجه الوطن....
تراهم يبصقون على حال الوطن...أم على حالهم المزرى؟
تراهم يبصقون على وجه الاهمال...أم على مشاركتهم فى الاهمال؟
تراهم يبصقون على وجه الفساد...أم على صمتهم على الفساد؟
تراهم يبصقون على وجه الجهل...أم على على سيرهم فى ركب الجهل؟
تراهم يبصقون على وجه كل ما هو مهين و مشين و مذل و مخز ...أم على كونهم جزءا من كل ذلك؟
تراهم....
يقطع عليه حديثه لنفسه صوت قذيقة جديدة تأتى من خلفه ...يشعر أنه ذهب بعيدا فى أفكاره...فلا أحد من هؤلاء يفكر فيما دار بعقله أو يأبه به... فالأمر فى النهاية لا يعدو أن يكون سلوكاً بذيئاً لا ينفصل كثيراً عن الواقع و ما به من بذاءة...!!!