Monday, June 28, 2010

تحية للسيد الصِمَام


فى تلك الدول التى تعترف بمبدأ تداول السلطة - المُستنكر فى بلادنا - استقر فى وعى المواطن بشكل راسخ لا يدعو إلى الشك أن سنّة الحياة تقتضى التغيير و أن رئيس الدولة أو رئيس الوزراء أو أيا من كان على رأس الدولة - و الذى بالطبع لا يحمل سلطات مطلقة - يأتى بالانتخاب ليكون خادما للمواطنين الذين انتخبوه لفترة محددة مسبقا و يعلم جميع الأطراف أن لها نهاية يأتى بعدها غيره حتى و إن كان أعظم من وُلد فى عصره.

على الجانب الأخر و فى دول أخرى عمل البعض على مر السنين على تزييف وعى المواطن و إقناعه بأفكار- يلبسونها لباس المبادئ العظيمة- ترسّخ داخله قبول ثبوت السلطة.

أحد هذه المبادئ هو مبدأ كبير العائلة:
فيتحدثون عن الرئيس على أنه كبير العائلة و الأب الروحى للشعب و "كبيرهم و تاج راسهم" و أنهم دونه "" ميسووش مليم" و أن نقده انتقاص من هيبة الأب و نقص فى الأدب لعدم توقير الكبير.

و إدخال هذا المبدأ فى الوعى أو اللاوعى الشعبى يحول الرئيس من شخص منتخب يخدم الشعب إلى شخص على الشعب أن يوقره ويخدمه و يبرّه فلا يقل له أف.

مبدأ آخر هو مبدأ القِدَم:
فيعملون على التأكيد على عامل الخبرة و أن الرئيس كلما مكث أكثر على كرسيه كلما ازدادت خبرته فلا تضاهيها خبرة -إلا خبرة ابنائه التى قد تقترب من خبرته بحكم تربيتهم على حجر الجالس على الكرسى- و بالتالى يقف هذا المبدأ فى وجه أى مواطن لأنه لم يكن رئيسا سابقا "معتّقا" لديه ذلك القدر من الخبرة المزعومة.

مبدأ ثالث هو مبدأ الصمام:
وهو مبدأ عجيب غريب مريب يتعاما مع البلاد من وجهة نظر أنبوبة البوتاجاز و قد أخذ البعض يرددونه مؤخرا فيشيرون إلى أن الرئيس هو صمام الأمان للشعب و أن من دونه تتخبط البلاد و يحدث ما لا يحمد عقباه و هو مبدأ أخطر لأنه لا يغلق الباب فى وجه التغيير أو منافسة السيد الصمام فحسب إنما يرسخ بداخل المواطن شعور بعدم الأمان لأنه عاجلا أم آجلا سيرفع هذا الصمام و بالتالى يرفع معه الأمان المزعوم..!!!

و مع استنكارى لتلك الأفكار السخيفة على أن أعترف أن تشبيه الرئيس بالصمام لا يخلو من بعض الصحة ففى لسان العرب يأتى الصمام من صمم :

و الصَّمَمُ: انْسِدادُ الأُذن وثِقَلُ السمع
و يقال لصِمامِ القارُورة: صِمَّةٌ.
وصَمَّ رأْسَ القارورةَ يَصُمُّه صَمّاً وأَصَمَّه: سَدَّه وشَدَّه، وصِمامُها: سِدادُها وشِدادُها.
والصِّمامُ ما أُدْخِلَ في فم القارورة، والعِفاصُ ما شُدَّ عليه، وكذلك صِمامَتُها
وصَمَمْتُها أَصُمُّها صَمّاً إذا شَدَدْتَ رَأْسَها
وأَصْمَمْتُ القارورة أي جعلت لها صِماماً

فتحية للسيد الصمام!!

Tuesday, June 01, 2010

عن سفينتك التى تقصف كل يوم


عندما قصفت سفن قافلة الحرية المتوجهة إلى غزة...هب الجميع -ولهم كل الحق- ينددون بهذا العمل المريع الملئ بالصفاقة و ال"بجاحة" الاسرائيلية المعتادة...أخذ الجميع بكتبون و يصرخون و يتحدثون إلى أنفسهم تنفيسا عن الغضب الكامن داخلهم...و يتوجهون إلى العالم ليوقظوا الناس من غفلته و يكشفون وجه إسرائيل القبيح.

عندما قصفت سفن قافلة الحرية...قام الجميع...تحدثوا و نددوا و شجبوا و اعترضوا و تظاهروا ...غضبوا أشد الغضب...فعلوا ذلك لأنهم قد رأوا رأى العين الاعتداء الآثم.

على الجانب الآخر كانت سفينة من نوع آخر تقصف بشكل مختلف منذ سنوات عديدة...منذ دخلنا عهد السلام و الذى هو فى جوهره استسلام جلب لنا كل أنواع الوبال و الذل و الهوان و الخراب...و تلك السفينة هى سفينتك و سفينتى و سفينة كل المصريين التى تقصف كل يوم بالتطبيع و الاختراق و التدخل و التداخل فى كل شئ أخطرها قوت المواطن.

دعنا من الحديث المسترسل و لنسوق أمثلة و مواقف أبرزها ما يمكن أن يتعرض لها الإنسان فى عمله...مصدر رزقه:

هل تعلم أن هناك من الشركات متعددة الجنسيات من تقدم الخدمات إلى إسرائيل بشكل معلن أو غير معلن عن طريق فروعها فى مصر؟

هل تعلم أنك عرضة للعمل أو التعامل مع إسرائليين بشكل مباشر فى تلك الشركات؟
هل تعلم أنك قد تعمل فى مكان ما او مشروع لصالح إسرائيل دون أن يتم إخبارك؟

هل تعلم أن هناك من يعلم كل ذلك و لا يراه كارثة أو يرفضه و يستنكره ...بل و يقبل بالعمل لحاجته الشديدة إلى المال و لأنه باع المبدأ و القضية أصلا؟

هل تعلم أن الأمر فى سبيله إلى التفشى ليصبح طبيعيا و مقبولا ...بل و يجد البعض له مبررات و أعذار و يخلقون قناعات و يزيفون وعى من حولهم؟

هل تعلم أن الأمر لا يقتصر على الشركات متعددة الجنسيات و أن الأمر لا يتم على استحياء؟...فقد رٌوى لى أن أحد المهندسين الشباب ذهب ليعمل فى مصنع أسمنت على أرض سيناء فقيل له بكل هدوء و بساطة أن الأسمنت المصنوع هنا يباع إلى إسرائيل...و سئل إن كان يجد غضاضة فى ذلك؟...المفاجأة أن العديد من الشباب لم يروا مانعا فى قبول مثل هذا الأمر المشين و رضوا بالعمل هناك....!!!

دعنا نتخيل هذا المشهد....مصرى يجلس أمام مصرى على أرض سيناء المصرية ليسأل أحدهما ذلك السؤال المخزى فى هدوء شديد يقابله هدوء أشد من الطرف الآخر الذى يوافق فى اطمئنان...!!! ترى لو سمعه الشهداء الذين ماتوا فداء لسيناء...هل يهنأ لهم بالا...أراهم يخرجون من قبورهم سراعا ليقتصوا من الذين باعوا دماءهم من أجل حفنة مال أو جاه زائل...!!!

تلك الأمثلة قليل من كثير من القذائف اليومية على سفينتنا....و غير ذلك من تبعات اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة Qualified Industrial Zones (QUIZ)

أو المنتجات الاسرائيلية التى تدخل الأسواق المصرية و تباع دون تورية و يقبل عليها البعض دون أى شعور بالذنب....وما خفى كان أحقر...!!

فى نهاية الأمر هو قصف هادئ لا تسمع ضوضاءه وبطئ يحدث دون أن يلحظه الكثيرون ...و لكنه شديد التأثير و العمق و الخطورة لأنه يرتبط بالحياة الاقتصادية و القوت اليومى للمواطن. و لعل ذلك التكنيك لا يخفى على الذين
يعقلون

و لعلنى أذكر قول الكاتب محمد الماغوط* :

....و أنه لو حلت الآن بالمنطقة و بالعالم أجمع أفدح المصائب القومية أو الجغرافية أو المصيرية, فإن المواطن العربى -ردا على هذا المصير الذى آل إليه- لم يعد يقفز إلى بندقية ليحارب أو إلى الشارع ليتظاهر أو حتى إلى السطوح ليتفرج , بل إلى آلة الجيب الحاسبة و يحسب :

هل تؤثر على تجارتهه إذا كان تاجرا؟
أو على محصوله إذا كان مزارعا؟
أو على شهرته إذا كان كاتبا؟
أو على اعلاناته إذا كان صحافيا؟
أو على امتحاناته إذا كان تلميذا؟
أو على ترفيعه إذا كان موظفا؟
فإذا كان الجواب "لا" فكل شئ على ما يرام , السماء صافية , و النسيم عليل , و لا ينقصه إلا وصلة غنائية أو مسرحية فكاهية ليقلب على قفاه من الضحك و الانشراح و خلو البال.

تلك الكلمات التى نشرت فى عام 1987...أى منذ جئت إلى هذه الدنيا....لا أعلم هل كان يراه واقعا...أم رأى بوادره ...أم تنبأ له ساخرا..؟!!!

و لكنه على كل حال و للأسف الشديد قد أصبح جزءا من الواقع ...فحولنا الكثيرون ممن يؤثرون أن طأطأة الأعناق أو ما يسمونه السلام خوفا على مصالحهم ...و الخوف كل الخوف ان يكثر هؤلاء و يتفشى الوباء فتصغر الكبائر فى أعينهم...و هنا يكون القصف الهادئ البسيط الذى لم يفزع له أحدا قد آتى ثماره فبيغرق الجميع و هم فى غفلة عن سفينتهم التى تقصف كل يوم...!!!

---------------------

جزء من "و لكن الضفاف لا تجرى"...من كتاب "سأخون وطنى"...محمد الماغوط